فصل: قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال غيره: بل هو كلّ نبات قاتل.
القول الثاني: أنها غير معروفة في شجر الدنيا.
قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة، فقالوا: كيف تكون في النار شجرة.
فأنزل الله تعالى: {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} قال الزجاج: حين افتتنوا بها، وكذبوا بوجودها.
وقيل: معنى جعلها فتنة لهم: أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها، والمراد بالظالمين هنا: الكفار، أو أهل المعاصي الموجبة للنار.
ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة ردًّا على منكريها، فقال: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} أي: في قعرها، قال الحسن: أصلها في قعر جهنم، وأغصانها ترفع إلى دركاتها، ثم قال: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشياطين} أي: ثمرها، وما تحمله كأنه في تناهي قبحه، وشناعة منظره رؤوس الشياطين، فشبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئيّ، للدلالة على أنه غاية في القبح كما تقول في تشبيه من يستقبحونه: كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه: كأنه ملك، كما في قوله: {مَا هذا بَشَرًا إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، ومنه قول امرىء القيس:
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقال الزجاج، والفراء: الشياطين: حيات لها رءوس، وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وأخبثها، وأخفها جسمًا.
وقيل: إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له: الأستن، ويقال له: الشيطان.
قال النحاس: وليس ذلك معروفًا عند العرب.
وقيل: هو شجر خشن منتن مرّ منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين.
{فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا} أي: من الشجرة، أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلىء بطونهم، فهذا طعامهم، وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} بعد الأكل منها {لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} الشوب: الخلط.
قال الفراء: يقال: شاب طعامه، وشرابه: إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبًا وشيابة، والحميم: الماء الحارّ.
فأخبر سبحانه: أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحارّ، ليكون أفظع لعذابهم، وأشنع لحالهم كما في قوله: {وَسُقُواْ مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15] قرأ الجمهور {شوبًا} بفتح الشين، وهو: مصدر، وقرأ شيبان النحوي بالضم.
قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى: المشوب، كالنقص بمعنى: المنقوص.
{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم} أي: مرجعهم بعد شرب الحميم، وأكل الزقوم إلى الجحيم، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل، ثم يردّون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ} [الرحمن: 44].
وقيل: إن الزقوم، والحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها.
قال أبو عبيدة: ثم بمعنى: الواو، وقرأ ابن مسعود {ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم} وجملة {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ} أي: وجدوا {آباءهم ضالين} تعليل لاستحقاقهم ما تقدّم ذكره، أي: صادفوهم كذلك، فاقتدوا بهم تقليدًا، وضلالة لا لحجة أصلًا {فَهُمْ على ءاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} الإهراع: الإسراع.
قال الفراء: الإهراع: الإسراع برعدة.
وقال أبو عبيدة: {يهرعون} يستحثون من خلفهم، يقال: جاء فلان يهرع إلى النار: إذا استحثه البرد إليها.
وقال المفضل يزعجون من شدّة الإسراع.
قال الزجاج: هرع، وأهرع: إذا استحثّ، وانزعج، والمعنى: يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين} أي: ضلّ قبل هؤلاء المذكورين أكثر الأوّلين من الأمم الماضية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي: أرسلنا في هؤلاء الأوّلين رسلًا أنذروهم العذاب، وبينوا لهم الحقّ، فلم ينجع ذلك فيهم {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} أي: الذين أنذرتهم الرسل، فإنهم صاروا إلى النار.
قال مقاتل: يقول: كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة، ثم استثنى عباده المؤمنين، فقال: {إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي: إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان، والتوحيد، وقرئ {المخلصين} بكسر اللام، أي: الذين أخلصوا لله طاعاتهم، ولم يشوبوها بشيء مما يغيرها.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وهناد، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله: {فاطلع فَرَءاهُ في سَوَاء الجحيم} قال: اطلع، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: قول الله لأهل الجنة: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئًَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19] قال: {هنيئًا} أي: لا تموتون فيها، فعند ذلك قالوا: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم} قال: هذا قول الله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في يدي، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثى على ركبتيه، فجعل يبكي حتى بلّ الثرى، ثم قال: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وسلم على مريض يجود بنفسه، فقال: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مرّ أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس، فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أولى لَكَ فأولى ثُمَّ أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34، 35]، فلما سمع أبو جهل قال: من توعد يا محمد؟ قال: إياك قال: بما توعدني؟ قال: أوعدك بالعزيز الكريم فقال أبو جهل: أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله: {شَجَرَةُ الزقوم طَعَامُ الأثيم} إلى قوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 43- 49] فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبدًا، وتمرًا، فقال: تزقموا من هذا، فوالله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا، فأنزل الله {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم} إلى قوله: {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ}.
وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه أيضًا {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} قال: لمزجًا.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضًا قال: في قوله: {لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} يخالط طعامهم، ويشاب بالحميم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء، ويقيل هؤلاء أهل الجنة، وأهل النار، وقرأ: {ثم إن منقلبهم لإلى الجحيم}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءابَاءهُمْ ضَالّينَ} قال: وجدوا آباءهم. اهـ.

.قال الشنقيطي في الآيات السابقة:

{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)}.
أكثر أهل العلم على أن المراد بالصافات هنا، والزاجرات، والتاليات: جماعات الملائكة، وقد جاء وصف الملائكة بأنهم صافون، وذلك في قوله تعالى عنهم: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} [الصافات 165166] ومعنى كونهم صافين: أن يكونوا صفوفًا متراصين بعضهم جنب بعض في طاعة الله تعالى، من صلاة وغيرها. وقيل: لأنهم يصفون أجنحتهم في السماء، ينتظرون أمر الله، ويؤيد القول الأول حديث حذيفة الذي قدمنا في أول سورة المائدة في صحيح مسلم: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا، وجعلت لنا تربتها طهورًا إذا لم نجد الماء»، وهو دليل صحيح على أن الملائكة يصفون كصفوف المصلين في صلاتهم، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على أنهم يلقون الذكر على الأنبياء، لأجل الإعذار والإنذار به كقوله تعالى: {فالملقيات ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 56]، فقوله: فالملقيات ذكرًا كقوله هنا: فالتاليات ذكرًا، لأن الذكر الذي تتلوه تلقيه إلى الأنبياء كما كان جبريل ينزل بالوحي، على نبيّنا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه على الجميع، وقوله: عذرًا أو نذرًا: أي لأجل الإعذار والإنذار، أي بذلك الذكر الذي تتلوه وتلقيه، والإعذار: قطع العذر بالتبليغ.
والإنذار قد قدمنا إيضاحه وبيّنا وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه على الجميع، وقوله: عذرًا أو نذرًا: أي لأجل الإعذار والأنذار، أي بذلك الذكر الذي تتلوه وتلقيه، والإعذار: قطع العذر بالتبليغ.
والإنذار قد قدمنا إيضاحه وبيّنا أنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 12] وقوله في هذه الآية: {فالزاجرات زَجْرًا} الملائكة تزجر السحاب، وقيل تزجر الخلائق عن معاص الله بالذكر الذي تتلوه، وتلقيه إلى الأنبياء.
وممن قال بأن الصافات والزاجرات والتاليات في أول هذه السورة الكريمة هي جماعات الملائكة: ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة؛ كما قاله القرطبي وابن كثير وغيرهما، وزاد ابن كثير وغيره ممن قال به: مسروقًا والسدي والربيع بن أنس، وقد قدمنا أنه قول أكثر أهل العلم.
وقال بعض أهل العلم: الصافات في الآية الطير تصف أجنحتها في الهواء. واستأنس لذلك بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن} [الملك: 19] الآية. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41] الآية.
وقال بعض العلماء: المراد بالصافات جماعات المسلمين يصفون في مساجدهم للصلاة، ويصفون في غزوهم عند لقاء العدو، كما قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}.
[الصف: 4].
وقال بعض العلماء أيضًا المراد بالزاجرات زجرًا، والتاليات ذكرًا: جماعات العلماء العاملين يلقون آيات الله على الناس، ويزجرون عن معاص الله بآياته، ومواعظه التي أنزلها على رسله.
وقال بعضهم: المراد بالزاجرات زجرًا جماعات الغزاة يزجرون الخيل، لتسرع إلى الأعداء، والقول الأول أظهر وأكثر قائلًا، ووجه توكيده تعالى قوله: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} بهذه الأقسام، و بإنَّ و اللام هو أن الكفار أنكروا كون الإله واحدًا إنكارًا شديدًا وتعجبوا من ذلك تعجبًا شديدًا، كما قال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] ولما قال تعالى: {إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} أقام الدليل على ذلك بقوله: {رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} فكونه خالق السماوات والأرض الذي جعل فيها المشارق والمغارب، برهان قاطع على أنه المعبود وحده.
وهذا البرهان القاطع الذي أقامه هنا على أنه هو الإله المعبود وحده، أقامه على ذلك أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة البقرة: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163]، فقد أقام البرهان على ذلك بقوله بعده متَّصلًا به: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السماء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة: فإن قلتُ: ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلتُ: إمّا أن تدلّ على ترتب معانيها في الوجود كقوله:
يا لهف زيابة للحارث ** الصابح فالغانم فالآئب

كأنه قيل: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل، واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات.
فإن قلت: فعلى أي هذه القوانين هي فيما أنت بصدده؟
قلت: إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل، وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتب الموصوفات فيه.
بيان ذلك: أنك إذا أجريت هذه الأوصاف على الملائكة، وجعلتهم جامعين لها فطفها بالفاء يفيد ترتبًا لها في الفضل، إما أن يكون الفضل للصف، ثم للزجر ثم للتلاوة. وإما على العكس، وكذلك إن أردت العلماء وقوّاد الغزاة. وإن أجريت الصفة الأولى على طوائف والثانية والثالثة على أخر، فقد أفادت ترتب الموصوفات في الفضل أعني أن الطوائف الصافات ذوات فضل والزاجرات أفضل، والتاليات أبهر فضلًا أو على العكس، وكذلك إذا أردت بالصافات الطير، وبالزاجرات كل ما يزجر عن معصية، وبالتاليات كل نفس تتلو الذكر، فإن الموصوفات مختلفة. انتهى كلام الزمخشري في الكشاف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: كلام صاحب الكشاف هذا نقله عنه أبو حيان، والقرطبي وغيرهما، ولم يتعقبوه، والظاهر أنه كلام لاتحقيق فيه، ويوضح ذلك اعتراف الزمخشري نفسه بأنه لا يدري ما ذكره: هل هو كذا أو على العكس، وذلك صريح في أنه ليس على علم مما يقوله، لأن من جرم بشيء ثم جوز فيه النقيضين دل على أنه ليس على علم مما جزم به.
والأظهر الذي لا يلزمه إشكال أن الترتيب بالفاء لمجرد الترتيب الذَّكري والإتيان بأداة الترتيب لمجرد الترتيب الذَّكري فقط، دون إرادة ترتيب الصفات أو الموصوفات أسلوب عربي معروف جاء في القرآن في مواضع، وهو كثير في كلام العرب.
ومن أمثلته في القرآن العظيم قوله تعالى: {فَلاَ اقتحم العقبة وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 1117] الآية، فلا يخفى أن ثم حرف ترتيب وأن المرتب به الذي هو كونه من الذين آمنوا لا ترتب له على ما قبله إلا مطلق الترتيب الذَّكري، ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 153154] الآية، كما لا يخفى أن الترتيب فيه ذِكْرِي.
وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} [البقرة: 199]. ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه ** ثم قاد ساد قبل ذلك جده